قاعدة روسية في السودان- مصالح استراتيجية وتنافس جيوسياسي في البحر الأحمر

تتضافر عوامل جمة لإذكاء طموح موسكو في تدشين مركز للدعم اللوجستي التابع للبحرية الروسية على امتداد ساحل ولاية البحر الأحمر في السودان، وتوجد مسوغات جلية تحفز الخرطوم على القبول بهذه الخطوة تحديدًا وفي هذا المنعطف الزمني بالذات.
فمن جانبها، تتوق روسيا إلى إحكام قبضتها على شواطئ البحر الأحمر، ساعيةً إلى ترسيخ موطئ قدم راسخ لها في منطقة القرن الأفريقي، وذلك في خضم مشهد يعج بالتحولات السياسية المتسارعة، والتنافس المحموم بين القوى الإقليمية والدولية المتصارعة على النفوذ في البحر الأحمر، وهو أمر بالغ الأهمية لصون أمنها البحري وضمان مصالحها الملاحية.
بالمقابل، تجد الحكومة السودانية في إقرارها لقيام هذا المركز تحقيقًا لأهدافها الإستراتيجية العليا ومصالحها القومية الجوهرية، كما أنه يمثل توطيدًا للعلاقات المتينة مع موسكو، التي ما فتئت تساند السودان في المحافل الإقليمية والدولية كافة، وتواصل تقديم الدعم العسكري واللوجيستي المتواصل لجيشها الذي يخوض معارك ضروسًا ضد "قوات الدعم السريع".
تعتبر الحكومة السودانية روسيا حليفًا وثيقًا، يمتلك تاريخًا عريقًا في تأهيل وتدريب الكفاءات العسكرية السودانية، وتتطلع إلى توسيع آفاق التعاون معها ليشمل باقة متكاملة من المشاريع الاقتصادية ذات البعد التنموي الشامل، بحيث تغطي قطاعات حيوية كقطاعات الطاقة والغاز والتعدين والزراعة، بالإضافة إلى تطوير شبكات السكك الحديدية وتأمين السلع الإستراتيجية كالقمح والنفط، وبالطبع تعزيز القدرات العسكرية والدفاعية للبلاد.
إلا أنها تحرص في الوقت ذاته على التأكيد على أن هذا الاتفاق يرتكز، تمامًا كما هو الحال في العلاقات الدولية، على المصالح المتبادلة وليس على العواطف الجياشة، وأن التفاهمات والزيارات المتبادلة مع موسكو لا تهدف بأي شكل من الأشكال إلى الإضرار بمصالح الدول الأخرى، ولا سيما الدول المشاطئة للبحر الأحمر. وفي هذا السياق، صرح السفير السوداني لدى موسكو، محمد الغزالي سراج، لوكالة "سبوتنيك" الروسية بأنّ: "القاعدة تمثل نقطة دعم لوجستي بحتة في البحر الأحمر"، وهي بمثابة محاولة جادة لطمأنة دول المنطقة والعالم بأن تلك القاعدة الروسية لن تتعدى كونها مركزًا لوجيستيًا خالصًا، وأنها لا تتعارض مع الاتفاقية الأمنية الموقعة في عام 2018 مع المملكة العربية السعودية والدول المطلة على البحر الأحمر.
ويبدو جليًا أن الدولتين قد حسمتا أمرهما وأعادتا إلى واجهة الأحداث الاتفاق الذي ظل معلقًا منذ العام 2019، والذي ينص على التعاون الوثيق والتنسيق المستمر بينهما في مجال استشراف التهديدات المحتملة والقدرة على مواجهة التحديات المستجدة، بالإضافة إلى تحسين مستوى الأمن السيبراني.
لطالما كان البحر الأحمر، بما يمتلكه من أهمية جيوسياسية بالغة، مسرحًا دائمًا للتنافس الشرس. فالدول المطلة عليه تسعى جاهدة لحماية أمنها الوطني وتعزيز استقرارها، والقوى الإقليمية الطامحة إلى زعامة المنطقة تسعى بكل ما أوتيت من قوة لفرض نفوذها وسيطرتها فيه، في حين تسعى القوى العالمية الكبرى إلى حماية مصالحها المترامية الأطراف خلف البحار، إذ يمثل هذا البحر ممرًا رئيسيًا حيويًا لعبور التجارة العالمية.
على مر العقود المنصرمة، بتنا نشهد ازدحامًا إقليميًا ودوليًا محمومًا على إقامة قواعد عسكرية في ساحل البحر الأحمر. وتعتبر دولة جيبوتي، بموقعها الإستراتيجي المتميز، أبرز الدول التي شهدت هذا الازدحام المتزايد، فهي تحتضن على أراضيها قواعد عسكرية تابعة لفرنسا والولايات المتحدة والصين وإيطاليا. ففيها قاعدة "ليمونية" الأميركية التي أنشئت في عام 2003 وهي تتبع لقوات "أفريكوم"، وتضم حوالي 4000 جندي، وقاعدة "إيرون" الفرنسية التي تضم 1700 عنصر، وتضم قوات فرنسية وألمانية وإسبانية تقوم بمهام استطلاعية متنوعة. أما القاعدة الإيطالية فتضم 300 عنصر وطائرات بدون طيار متطورة. بينما أنشأت الصين أول قاعدة عسكرية لها في العالم على أرض جيبوتي في عام 2017، وهي تضم حوالي 10 آلاف عنصر.
بالنسبة لدول القرن الأفريقي الساحلية، فإن تأجير الأراضي لإنشاء قواعد عسكرية أجنبية يمثل وسيلة فعالة للتغلب على الأوضاع الاقتصادية المتردية التي تعاني منها، والتخفيف من وطأة العقوبات الدولية المفروضة على بعضها. كما أن بعضها الآخر يسعى من خلال استضافة قاعدة عسكرية إلى تأمين دعم خارجي قوي لمواجهة الأزمات الداخلية المتفاقمة أو التهديدات المتزايدة من قوى إقليمية ودولية أخرى. وهكذا، يتصاعد التنافس يومًا بعد يوم، ويسعى المزيد من القوى إلى ترسيخ أقدامها في هذه المنطقة الحيوية لحماية مصالحها في أحد أهم الممرات المائية في حركة التجارة العالمية. ولا يمكن فهم مسودة الاتفاق المتعلقة بإنشاء مركز دعم لوجستي للبحرية الروسية في السودان إلا في هذا السياق الجيوسياسي المعقد.
